قد لا يكون من الخفى على أحد تلك الجهود المضنية .. وهذه المحاولات الدءوبة التى تقوم بها الدولة للتغلب على الأمية .. تلك المعضلة التى ظلت تخيم على الأجواء لفترة طويلة .. والعقبة التى ظلت تعترض كل سبل التنمية البشرية . وبرغم الصعوبات الكثيرة .. العقبات المتعددة .. إلا أنه من الواضح تماما إن تلك الجهود .. وهذه المحاولات قد نجحت إلى حد بعيد .. بل وبدأت تؤتى ثمارها المرجوة .. مما يدفعنا إلى مضاعفة الجهد للحصول على المزيد من المزايا .. والوصول للمزيد من النجاح .
ولكن رغم كل النجاحات إلا أن الحقيقة التى قد لا يعلمها الكثيرون .. وهى أن الأمية .. ليست أمية القراءة والكتابة فقط .. بل هناك أنواع أخرى من الأمية .. قد لا تقل خطرا عن أمية القراءة والكتابة إلا وهى الأمية الثقافية .. والأمية الفكرية .
وبالنسبة للأمية الثقافية .. فقد حاولت الدولة .. إيجاد الحلول المناسبة لها .. وذلك عن طريق مشروعها المثمر والرائد " مشروع مكتبة الأسرة " ذلك المشروع الذى تكفل بتثقيف المجتمع بأقل التكاليف الممكنة واضعا نصب عينيه أثر الحالة الاقتصادية وانخفاض مستوى المعيشة على طلاب الثقافة .. على اختلاف وسائلها ولكن أليس من المحزن بعد ذلك .. أن يقوم المذيع فى أحد برامج التليفزيون بتوجيه سؤال إلى بعض شباب الجامعة .. عن مقر " جامعة الدول العربية " فتكون الإجابة المفاجئة والمدهشة لكل المشاهدين .. أن مقر جامعة الدول العربية فى " أديس أبابا "
أليس من المؤلم أن يقوم المذيع بسؤال بعض طلبة الجامعة أيضا عن الزعيم الوطنى " محمد فريد " فتكون الإجابة أنه اسم شارع بالقاهرة فإذا كان المستوى الثقافى لشباب الجامعة .. ومن يفترض فيهم أنهم .. هم الواجهة الثقافية والحضارية المشرقة لشباب مصر .. بهذا القدر من التدنى .. اعتقد أن الأمر .. يدعو إلى الحزن ويبعث على الخوف على ثقافة مجتمعنا وما سيكون عليه .. فى ظل تلك المؤشرات وفى وجود تلك الدلائل .
أما بالنسبة للأمية الفكرية .. فاعتقد أننى لن أكون مبالغا إذا قلت .. بل أننى أكاد أجزم بأن الأعم الأغلب من مثقفينا .. يعانون من الأمية الفكرية .. والتى جعلتهم فى الواقع .. مجرد أوعية .. تكسب فيها الحقائق والمصطلحات والمفاهيم .. دون محاولة الاستفادة منها فى نصرة قضية أو الدفاع عن حق .. أو إثبات رأى وبدون القدرة على الربط بين تلك الأفكار والمفاهيم لتكوين رأى يعبر عن شخص هذا المثقف .. وعن ثقافة مجتمعه الذى يعيش فيه .. وعن مدى تأثيره .. وتأثره بمن حوله .. أو حتى فلسفة تلك الآراء والمفاهيم .. وبدون الانحياز لمبدأ .. أو الميل إلى رأى اتجاه .. فى ظل غياب ثقافة الحوار .. وهذا يعطى المبرر الكافى .. لمحاولات الغزو الفكرى المستمرة والمتتالية .
ومن كل ما سبق تتضح لنا التبعة الكبيرة .. التى تتحملها الدولة .. والمسئولية الضخمة .. الملقاة على عاتق المثقفين والمثقفين .. لمواجهة تلك العقبات ومحاولة إيجاد حل لتلك الصعوبات للتغلب على مشكلة الأمية بشتى صورها وكل اتجاهاتها .. لحماية أنفسنا .. وتوفير المناخ الثقافى المناسب للأجيال القادمة .
بعد أن أفرغ الناى كل أناته .. وألقى فى كل أرجاء الكون ألحانه .. فاهتزت جوانبه ما بين الطرب والأسى – وما بين الشدو واللوعة – لفظ جبران الذى نعيش ذكراه هذه الأيام أنفاسه .. مودعا ساحة الأحياء .. تاركا فيها دويا مازال يملأ أسماعهم ويوقظ مشاعرهم .. ومخلفا بريقا مازال يأسر ألبابهم ويملك أفئدتهم .. وكأنه كان يحاول أن يلقى بكل ما أوتى من الإبداع والإعجاب قبل أن توافيه المنية .. وهذا ما يثبته فى قوله :
أعطني الناى وغن
فالغنا سر الخلود
وأنين الناى يبقى
بعد أن يفنى الوجود
لذا شدا جبران بكل ما لديه من موهبة وترنم .. واعتصر .. ليسينا عصارة إحساسه .
لقد عاش جبران مغتربا عن وطنه .. وجرب آلام الغربة .. وهدته الوحدة .. فكان يهرب من تلك الوحدة إلى قلمه .. ليعبر لنا عن اسمى مشاعر الإنسان .. حينما يبحث فى ذاته ويغوص فى أعماق نفسه ليكشف لنا عجائب النفس البشرية وما تنطوى عليه من الأسرار وما تحمله من المتناقضات .
وعلى الرغم من أن جبران كان يضيق ذرعا بالناس من حوله .. ويخاطبهم فى احتقار وازدراء : " أنا أكرهكم يا بنى قومى ..لإنكم تكرهون المجد والعظمة " إلا أنه يعود ليلقى باللائمة على نفسه لأنه قد نأى بنفسه عن الناس ولم يحاول أن يقترب من خلجات نفوسهم .. يستشعر ما يجيش بداخلهم .. لكنه كان كلما غاص فى أعماق روحه .. ليصف لنا مشاعره الخاصة وأحزانه الدفينة .. يلمس بيديه أسرارهم الخفية وما تنطوى عليه صدروهم .
وهكذا عاش جبران الذى كان يحمل بين ضلوعه قلبا كالطائر الذى يأبى الاستكانة .. وروحا محلقة .. شديدة النفور من الواقع .. متطلعة للمجد الأزلى ونفسا أبيه تأبى الانحناء أمام العواصف .
ولقد تآلبت على جبران فى شبابه معضلات ثلاث هى الفقر والغربة والوحدة .. وما بين مهانة العوز ومرارة الحرمان وآلام الغربة وقسوة الوحدة .. تقلب جبران .. وعلى الرغم من أن جبران لم يكن يسعى إلى الثراء إلا أنه كان يطمح فقط لأن يحيا حياة كريمة .
ولقد عانى جبران من جراء ذلك العوز .. الكثير حتى ترك لنا مقولته الخالدة " ما أظلم من يعطيك من جيبه ليأخذ من قلبك " .
أما الغربة فقد كتبت عليه إلى الأبد .. ويروى صديقه " ميخائيل نعيمة " كيف أنه كان يحكى عن " بشرى " بلدته الصغيرة فى لبنان وصومعته الطبيعية المنحوتة فى حضن الجبل القائمة بضاحية " مارسركيس " فى جبهة وداى " قاديشا " على سطح جبل الأرز وما يحيط بها من أشجار الأرز المقدس .. وحنينه إليها .. واشتياقه للعيش فيها .. لكن القدر لم يمهله لتحقيق ما كان يحلم به .. حتى أن " ميخائيل نعيمة " كان يقول له مرهبا ومحفزا " أخشى ألا تزور بشرى إلا فى أحلامك وألا تدخلها إلا محمولا على الأيدى " .
وقد تحققت مخاوفه فلم يدخلها جبران بعد ذلك إلا محمولا لتشييعه إلى مثواه الأخير .. ولم يدخلها ميخائيل نعيمة إلا زائراً ليضع باقة من أزهار الجبل وأكاليل الغار على قبر صديقه ورفيق رحلته ..
وأما الوحدة – فلازمته منذ صباه – فبعد أن فجعه الدهر فى معظم أفراد أسرته .. ولم يبق من تلك الأسرة سوى أخته " ماريانا " التى كتب لها أن تعيش لتشييعه إلى مثواه الأخير .. ولم تكن فجيعته تلك هى الأخيرة .. فقد فجعه الدهر فى قصة حبه الأولى والتى خلدها فى روايته الرائعة " الأجنحة المتكسرة " والتى استقبلها العالم العربى بانبهار شديد أنذاك واعتبرها النقاد والمثقفون لونا جديرا من الإبداع الأدبى الذى يستحق التقدير والاهتمام .. وظلت أحاديث الأوساط الأدبية لفترة طويلة .. وتفاعل القراء معه .. لما لمسوه من صدق التجربة وقدرته الفائقة على الصياغة والتأثير الذى حرك قلوب الناس وأيقظ مشاعرهم وبخاصة تلك التوطئة المؤثرة والتى يتضمنها قوله وسلمى الجميلة العذبة .. قد ذهبت إلى ما وراء الشفق الأزرق ولم يبق من أثارها فى هذا العالم سوى غصات أليمة فى قلبى .. وقبر رخامى منتصب فى ظلال أشجار السرو .. فذلك القبر وهذا القلب .. هما كل ما بقى ليحدث الوجود عن سلمى كرامة " .
وعلى الرغم من فرحة جبران بما حققته " الأجنحة المتكسرة " من النجاح والذيوع إلا أنه كان ينزف من داخله .. لأنه كان يعلم أن كل هذا النجاح .. لن يعيد إليه ما سلبه الدهر إياه .. لذا حاول جبران عقد الهدنة مع أحزانه والاستغراق فى الفن .. لمعرفته بأنه أكبر معين للروح لكسر قيودها وعقد السلام بينها وبين الدنيا جميعا .. لأنه قد حظى بالاثنين .. الشعر والفلسفة وكلاهما مرآة الحقيقة .
وعلى الرغم من ذلك عاش جبران حياة مضطربة مليئة بالعواصف الشعورية والتقلبات العاطفية ولم ينعم بالاستقرار الروحى الذى هو غاية كل فنان .
وبرغم توالى نجاحات جبران وترجمة كتاباته إلى أكثر من لغة وتوالى صدور مؤلفاته " المجنون – السابق – العواصف – النبى " وذيوع شهرته فى أمريكا .. لدرجة أنه قد وقع الاختيار على مقولته الشهيرة " ما اليوم إلا ذكرى الأمس ولا الغد إلا حلم اليوم " لتكتب على واجهة إحدى الكليات بولاية كلورادو .. وبلوغه بذلك قمة المجد والشهرة وحصوله بهما على المال .. إلا أنه لم يجد إلفا لوحدته ومات كما عاش " فى غربة " .
اتهام صريح موجه لنا نحن الشباب ؟! ولكن على العكس تماما فنحن جيل طموحاته كبيرة بينما مشكلاته أكبر وأفكاره متعددة بينما تحدياته أكثر .. فثمة هوة واسعة بين ما نطمح إليه وبين الواقع الذى نعيشه وثمة بون شاسع بين ما نريده وما نحققه .
ونظراً لانفتاحنا على الحضارات الأخرى عبر القنوات الفضائية فى عصر السماوات المفتوحة وقيام الصراعات الفكرية بين الحضارات كان المطلوب منا كشباب يستعد لتحمل المسئولية فى المستقبل أن نتخلى عن التشبث بالماضى وأن نتحرر من جذورنا ونظير لنحلق فى سماء المستقبل لمجاراة التقدم المذهل من حولنا لكننا بعد أن تحررنا من جذور ماضينا وقصدنا سماء المستقبل ضللنا الطريق وبقينا فى المنتصف معلقين فى الهواء مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فلا نحن وصلنا سماء المستقبل ولا بقينا على صلتنا بالماضى وظللنا هكذا نتارجح فى الفضاء تتلاعب بنا التيارات الفكرية المختلفة وتتقاذفنا الأهواء فأصبحنا بذلك " كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وصرنا جيلا بلا هوية ولا انتماء واضح وأخذت أصابع الاتهام تتجه نحونا بأننا فقدنا الانتماء بل وبأننا قد أضعنا الهوية العربية .
وبذلك أصبحنا " بين نارين " نار ‘إحساسنا بالعجز وخيبة الأمل ونار اللوم من سابقينا واتهامهم لنا بأننا لم نكن على قدر المسئولية الموكلة إلينا والمنوط بنا حملها وبذلك جمعنا بين النارين " عذاب القوم ومرارة اللوم " وإن كنا لا نعفى أنفسنا من الاتهامات الموجهة لنا لأنه كان من المفروض علينا التخطيط الجيد لهذا الانطلاق وإعداد أنفسنا لهذا الانفتاح وامتلاك أدوات الحوار مع الإبقاء على صلتنا بالماضى الذى يمثل هويتنا وعراقتنا وبذلك تصبح لدينا القدرة على مواجهة التحديات وإثبات ذاتنا وإنقاذ أنفسنا من الضياع .