me

Friday, April 24, 2009

عنـــــدما يسكت الناى



بعد أن أفرغ الناى كل أناته .. وألقى فى كل أرجاء الكون ألحانه .. فاهتزت جوانبه ما بين الطرب والأسى – وما بين الشدو واللوعة – لفظ جبران الذى نعيش ذكراه هذه الأيام أنفاسه .. مودعا ساحة الأحياء .. تاركا فيها دويا مازال يملأ أسماعهم ويوقظ مشاعرهم .. ومخلفا بريقا مازال يأسر ألبابهم ويملك أفئدتهم .. وكأنه كان يحاول أن يلقى بكل ما أوتى من الإبداع والإعجاب قبل أن توافيه المنية .. وهذا ما يثبته فى قوله :
أعطني الناى وغن
فالغنا سر الخلود
وأنين الناى يبقى
بعد أن يفنى الوجود
لذا شدا جبران بكل ما لديه من موهبة وترنم .. واعتصر .. ليسينا عصارة إحساسه .
لقد عاش جبران مغتربا عن وطنه .. وجرب آلام الغربة .. وهدته الوحدة .. فكان يهرب من تلك الوحدة إلى قلمه .. ليعبر لنا عن اسمى مشاعر الإنسان .. حينما يبحث فى ذاته ويغوص فى أعماق نفسه ليكشف لنا عجائب النفس البشرية وما تنطوى عليه من الأسرار وما تحمله من المتناقضات .
وعلى الرغم من أن جبران كان يضيق ذرعا بالناس من حوله .. ويخاطبهم فى احتقار وازدراء : " أنا أكرهكم يا بنى قومى ..لإنكم تكرهون المجد والعظمة " إلا أنه يعود ليلقى باللائمة على نفسه لأنه قد نأى بنفسه عن الناس ولم يحاول أن يقترب من خلجات نفوسهم .. يستشعر ما يجيش بداخلهم .. لكنه كان كلما غاص فى أعماق روحه .. ليصف لنا مشاعره الخاصة وأحزانه الدفينة .. يلمس بيديه أسرارهم الخفية وما تنطوى عليه صدروهم .
وهكذا عاش جبران الذى كان يحمل بين ضلوعه قلبا كالطائر الذى يأبى الاستكانة .. وروحا محلقة .. شديدة النفور من الواقع .. متطلعة للمجد الأزلى ونفسا أبيه تأبى الانحناء أمام العواصف .
ولقد تآلبت على جبران فى شبابه معضلات ثلاث هى الفقر والغربة والوحدة .. وما بين مهانة العوز ومرارة الحرمان وآلام الغربة وقسوة الوحدة .. تقلب جبران .. وعلى الرغم من أن جبران لم يكن يسعى إلى الثراء إلا أنه كان يطمح فقط لأن يحيا حياة كريمة .
ولقد عانى جبران من جراء ذلك العوز .. الكثير حتى ترك لنا مقولته الخالدة " ما أظلم من يعطيك من جيبه ليأخذ من قلبك " .
أما الغربة فقد كتبت عليه إلى الأبد .. ويروى صديقه " ميخائيل نعيمة " كيف أنه كان يحكى عن " بشرى " بلدته الصغيرة فى لبنان وصومعته الطبيعية المنحوتة فى حضن الجبل القائمة بضاحية " مارسركيس " فى جبهة وداى " قاديشا " على سطح جبل الأرز وما يحيط بها من أشجار الأرز المقدس .. وحنينه إليها .. واشتياقه للعيش فيها .. لكن القدر لم يمهله لتحقيق ما كان يحلم به .. حتى أن " ميخائيل نعيمة " كان يقول له مرهبا ومحفزا " أخشى ألا تزور بشرى إلا فى أحلامك وألا تدخلها إلا محمولا على الأيدى " .
وقد تحققت مخاوفه فلم يدخلها جبران بعد ذلك إلا محمولا لتشييعه إلى مثواه الأخير .. ولم يدخلها ميخائيل نعيمة إلا زائراً ليضع باقة من أزهار الجبل وأكاليل الغار على قبر صديقه ورفيق رحلته ..
وأما الوحدة – فلازمته منذ صباه – فبعد أن فجعه الدهر فى معظم أفراد أسرته .. ولم يبق من تلك الأسرة سوى أخته " ماريانا " التى كتب لها أن تعيش لتشييعه إلى مثواه الأخير .. ولم تكن فجيعته تلك هى الأخيرة .. فقد فجعه الدهر فى قصة حبه الأولى والتى خلدها فى روايته الرائعة " الأجنحة المتكسرة " والتى استقبلها العالم العربى بانبهار شديد أنذاك واعتبرها النقاد والمثقفون لونا جديرا من الإبداع الأدبى الذى يستحق التقدير والاهتمام .. وظلت أحاديث الأوساط الأدبية لفترة طويلة .. وتفاعل القراء معه .. لما لمسوه من صدق التجربة وقدرته الفائقة على الصياغة والتأثير الذى حرك قلوب الناس وأيقظ مشاعرهم وبخاصة تلك التوطئة المؤثرة والتى يتضمنها قوله وسلمى الجميلة العذبة .. قد ذهبت إلى ما وراء الشفق الأزرق ولم يبق من أثارها فى هذا العالم سوى غصات أليمة فى قلبى .. وقبر رخامى منتصب فى ظلال أشجار السرو .. فذلك القبر وهذا القلب .. هما كل ما بقى ليحدث الوجود عن سلمى كرامة " .
وعلى الرغم من فرحة جبران بما حققته " الأجنحة المتكسرة " من النجاح والذيوع إلا أنه كان ينزف من داخله .. لأنه كان يعلم أن كل هذا النجاح .. لن يعيد إليه ما سلبه الدهر إياه .. لذا حاول جبران عقد الهدنة مع أحزانه والاستغراق فى الفن .. لمعرفته بأنه أكبر معين للروح لكسر قيودها وعقد السلام بينها وبين الدنيا جميعا .. لأنه قد حظى بالاثنين .. الشعر والفلسفة وكلاهما مرآة الحقيقة .
وعلى الرغم من ذلك عاش جبران حياة مضطربة مليئة بالعواصف الشعورية والتقلبات العاطفية ولم ينعم بالاستقرار الروحى الذى هو غاية كل فنان .
وبرغم توالى نجاحات جبران وترجمة كتاباته إلى أكثر من لغة وتوالى صدور مؤلفاته " المجنون – السابق – العواصف – النبى " وذيوع شهرته فى أمريكا .. لدرجة أنه قد وقع الاختيار على مقولته الشهيرة " ما اليوم إلا ذكرى الأمس ولا الغد إلا حلم اليوم " لتكتب على واجهة إحدى الكليات بولاية كلورادو .. وبلوغه بذلك قمة المجد والشهرة وحصوله بهما على المال .. إلا أنه لم يجد إلفا لوحدته ومات كما عاش " فى غربة " .

No comments: