أمانة كبرى تلك التى ألقاها الخالق .. على عاتق الإنسان واختصه وحده بها من بين كل الخلائق .. ألا وهى " الكلمة " لأن الكلمة وأن بدت فى ظاهرها شيئاً هينا .. إلا أن الحقيقة أكبر من ذلك بكثير وذلك لما كان للكلمة من أثر كبير فى تغيير مجرى حياة الشعوب وفى رسم تاريخ الأمم .
لذا لم يكن من قبيل المجازفة أن يدفع عباقرة الفكر والأدب حياتهم ثمنا لتلك الأمانة الكبرى .. بمنتهى القناعة والرضا لا يمانهم الراسخ .. بقيمة الكلمة ودورها المؤثر .
هذا ما يؤكده قول الراحل الكبير " جبران خليل جبران " فى كتابه " دمعة وابتسامة " فى مقاله الرائع " صوت الشاعر " حيث يقول " جئت لأقول كلمة وسأقولها وإذا أرجعنى الموت .. قبل أن ألفظها .. يقولها الغد .. فالغد لا يترك سرا مكنونا فى كتاب اللا نهاية " .
ولقد قال جبران كلمته ودفع ثمنها غاليا وهذه الكلمة أيضا كانت سببا فى رحيل شاعر العربية الأول " أبو الطيب المتنبى " حينما اعترضه قطاع الطرق فحاول الهروب وجنح للفرار .. فى محاولة للنجاة بنفسه .. ولكن غلامه فاجأه بقوله " ألست يا سيدى القائل :
" فالخيل والليل والبيداء تعرفنى .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم "
فعاد أبو الطيب وثبت وقاتل على كره منه حتى قتل .. فدفع أبو الطيب حياته ثمنا لكلمة قالها .
لم يكن أبو الطيب أول من دفع حياته ثمنا للكلمة .. فلقد سبقه الكثيرون إلى نفس المصير .
ألم يدفع سقراط حياته ثمنا لقوله بان " الأرض كروية " ؟ فاتهم بالهرطقة وقدم للمحاكمة التى قضت بإعدامه وهذا ما دفع الكاتب والمفكر الفرنسى الكبير " فولتير " أن يكتب مقالاته وكتاباته بأسماء مستعارة فى بادئ الأمر .. حتى ينجو من خطر الإعدام .. وأن بدأ يجاهر بآرائه والتى منها قوله " كلمة ربانى هى الكلمة الوحيدة وهى الوصف الوحيد الذى يجب يتصف به الإنسان .. والكتاب الذى يجب أن يقرأه كتاب الطبيعة .. والديانة الوحيدة .. هى أن نعبد 00 وأن يكون لنا شرف وأمانة .. وهذه الديانة الصافية الخالدة لن تكون سببا للأذى حتى حكمت الحكومة الفرنسية ومعظم الحكومات الأوروبية آنذاك على مؤلفه بالكفر .. بل وقاموا بمنع تداول كتابه " المعجم الفلسفى " .. حتى وصل به الأمر إلى أن يشترى أرضا فى سويسرا .. وأرضا أخرى مجاورة فى فرنسا وذلك ترقبا للاضطهاد من إحدى الحكومتين " السويسرية " أو " الفرنسية " فإذا وجد الحملة عليه من فرنسا .. هرب إلى سويسرا وإذا وجد الحملة عليه من سويسرا هرب إلى فرنسا .
أما " رينان " الكاتب والمفكر الفرنسى أيضا فقد دفع ثمن كتابه حياة يسوع " غاليا والذى حدا بالكنيسة الكاثوليكية .. بإصدار حكم بتكفيره .. بل واعترضت على تعيينه أستاذا للغات السامية لأنه قال إن " المسيح إنسان لا أكثر " بل وقامت الكنيسة بمنع رعاياها من قراءة مؤلفاته .
لذا فلا عجب أن يدفع الكثير من الأدباء والمفكرين ثمن آرائهم غاليا .. لأنهم قد أدركوا قدر تلك الأمانة التى وقعت على عاتقهم .. فكان لابد لهم أن يكونوا على قدرها .
No comments:
Post a Comment